رام الله - الحياة الجديدة - نائل موسى - لقد ضربت وحقرت في عقر داري بما فيه الكفاية، وجرحت بالرصاص الحي غير مرة، واعتقلت وعذبت وحكم عليّ وتحررت وانا دون السادسة عشرة من العمر .. ببساطة لقد اسبغ عليّ الاحتلال بكل نعمه التي اسبغها على شعبنا الا الشهادة وانا اليوم انتظرها ولا أخشاها .. بهذه الكلمات المرة والعميقة في آن ظل الفتى محمد جبارين يرد على عبارات المهنئين له بسلامة التحرر من الأسر مؤخرا حتى نال الشهادة وقت سحور الليلة قبل الماضية في رام الله.
يرتبط الطفل محمد علي مصباح جبارين المولود عام 1991 برام الله بعلاقة اخوة حميمة غير عادية مع شقيقته لما المتزوجة في الخارج والتي تشبهه شكلا وروحا أكثر ربما من اشقائهما الاربعة وكان الاثنان يعدان كل من جانبه للالتقاء قريبا بعد خروجه من معتقل عوفر، هو تهيأ للسفر للاردن وهي سرعت الخطى لتسبقه الى رام الله فالتقيا امس في ثلاجة الموتى في المستشفى هو شهيد وهي مغمى عليها.
ينحدر محمد الطالب النجيب في مدرسة رام الله الثانوية والقائد الكشفي الطليعي والمثابر من عائلة تنحدر اصولها من بلدة الظاهرية في محافظة الخليل وتقطن الحارة التحتا الفقيرة والبائسة من رام الله القديمة والتي تحملت قسطا وافرا من النضال ضد الاحتلال منذ الانتفاضة الاولى عام 1987 ولعائلة عرفت النضال مبكرا وعايشته يوميا ودفعت لقاءه من جلد ابنائها.
فقدت العائلة الأب قبل ست سنوات بعد رحلة طويلة له مع المرض وتولت الوالدة >ام رامي< أمر أسرة لها من الابناء ثلاثة محمد أصغرهم ومن البنات ذات العدد بينهن >رنا< 22 ربيعا والتي أمضت عامين ونصف العام من زهرة شبابها في سجون الاحتلال قبل ان تعود اليها قبل عام بانتظار المحاكمة مجددا.
قصة محمد الفتى اليافع ذو الوجه الأسمر الطفولي البريء والشعر الاسود مع الحياة والاحتلال والتي اعتاد هو ان يلخصها بالجملة آنفة الذكر تجسد حياة ومعاناة ونضال الفلسطيني بكل تجلياتها وقسوتها.
تعرف محمد على محيطه ومشى خطواته الاولى في أزقة الحارة الفقيرة الضيقة في ظل السلطة الوطنية حاول ان يعيش طفولته لكنه فجع أولا بوفاة الأب الذي لم ينس بعد صوته وملامحه وما لبثت ان اندلعت انتفاضة الاقصى والاستقلال عام 2000 وعاد يشاهد جنود الاحتلال وهم يعيثون دمارا وارهابا في حارته ومدرسته ومن ثم في منزله ورأى بعينيه شقيقته رنا تقتاد مذعورة ومهانة غير مرة مع زوار ليل قساة وغلاظ القلوب دون ان يجد في نفسه تفسيرا لما يجري غير ما يسمعه في المنزل والحارة.
أيقن محمد الشقي الصغير ان عليه واجب السعي لتخليص شقيقه من القيد فانتظم رغم حداثة سنه في المسيرات وتميز بجسارة القلب وشجاعة ولم يعرف الخوف طريقا الى قلبه وهو يرمي الحجارة بعناد واصرار غير آبه بالعواقب.
قبل عامين استشهد ابن عمه الضابط في المخابرات ايمن راتب جبارين في قلب الحارة وهو يدافع عنها، رأى المشهد بأم عينيه مجددا بكل قساوته وألم تفصيلاته وسرعان ما وجد محمد نفسه يحمل اسم ابن عمه الشهيد راتب على رأس فرقة كشفية آلت على نفسها مساعدة أبناء المنطقة، حملت اسمها فالشهداء في فلسطين لا يموتون وتحمل اسماءهم وطريقهم من يرثهم سواء بالاسماء او الافعال لتبقى الطريق ممهدة نحو القدس والدولة.
بعدما هدأت الانتفاضة نوعا ما بعد عام 2004 انخرط محمد في المعسكرات الكشفية وفرق الطلائع وفي برنامج الشرطي الصغير حيث عمل على تنظيم فرق خاصة به تقوم بمساعدة الشرطة في تنظيم المرور في حارته وقد عرف عنه دماثة الخلق والاقدام في كل ما يفعل حتى فاخرت به وبافعاله الوالدة المكلون وشهد له الجيران واهالي الحي.
مساء الرابع من رمضان شعر محمد بعد ان افطر وصلى التراويح بشيء من التعب فخلد الى النوم وقال رفاقه انه منذ بداية الشهر الفضيل اخذ يكثر في الحديث عن الشهادة معهم ولا احد عرف السبب لكن الجميع توجس في نفسه وأحس ان يوم فراق محمد قد دنا.
بعد منتصف الليل تقول والدته: استيقظ واسرع واخذ حماما ساخنا وبدل ملابسه وخرج الى الحارة كانت الامور هادئة ولم يكن في الحارة او الاجواء ما يشير الى عكس ذلك كانت عقارب الساعة تشير الى ما بعد الواحدة فجرا عندما خرج محمد شعرت بقلبي ينقض خلفه لكنه لم يكن من سبب يدعو الى منعه فالناس وخاصة الشباب يخرجون في ليالي رمضان حتى موعد السحور هذا امر معتاد.
لم يتجاوز الامر 10- 15 دقيقة بعد خروجه حتى خرق سكون الليل ازير بضع رصاصات وكان قلبي يتقطع وينفطر ورجوت الله ان تكون هذه الرصاصات في الهواء وتمنيت لمحمد وكل الشباب السلامة.
مرت الدقائق مثل دهر حتى جاء الخبر المشؤوم، محمد اصيب وترك يسبح في دمه قبل ان ينقل الى المستشفى لقد استشهد وهو يعد الدقائق من اجل لقاء شقيقته لما، كان فرحا عندما علم انها في الطريق الينا لم تتحمل فكرة ان تلتقيه وتحتضنه للمرة الاخيرة في ثلاجة المستشفى بعدما تاقت مثله لتحضنه بعد خروجه من الاسر- لا حول ولا قوة الا بالله لقد قتلوه بسبق اصرار وحرقوا كبدي عليه مثلما حرقوه على رنا، قالت وهي بالكاد تحاول اطلاق زغرورة في وداع شهيد احتفظت لنفسها بحق ان تودعه ابنا بالدموع والدم.